ديسمبر 15, 2023    |   مشاهدات [jp_post_view]   | الكاتب: مهند شرباتي مسؤول قانوني – وحدة الدعم بالقانون الدولي

في ١٥ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٢٣ أصدر قضاة تحقيق جنائيون في فرنسا مذكرة توقيف بحق الرئيس السوري بشار الأسد بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية متعلقة بالهجمات الكيمياوية في مدينة دوما والغوطة الشرقية في آب/أغسطس ٢٠١٣، والتي أسفرت عن مقتل أكثر ألف شخص. جاءت المذكرة نتيجة شكوى تقدم بها المركز السوري للإعلام وحرية التعبير و مجموعة من الضحايا عام ٢٠٢١ وتم لاحقاً الانضمام إليها ودعمها من قبل الأرشيف السوري ورابطة ضحايا الأسلحة الكيماوية ومبادرة عدالة المجتمع المفتوح والمدافعون عن الحقوق المدنية وقد شملت أيضاً ماهر الأسد قائد ما يسمى الفرقة الرابعة في الجيش العربي السوري، بالإضافة إلى ضابطين أخرين هما غسان عباس والعميد بسام الحسن.

إصدار هذه المذكرة يعتبر خطوة بارزة في طريق السعي للعدالة والمحاسبة في سوريا فرغم جسامة هذه الجريمة والعدد الكبير من الضحايا والإصابات الجسدية والنفسية الذي نتجت عنها لم يتم محاسبة أي مسؤول عن استخدام السلاح الكيماوي. إضافة إلى أنها أول مرة تصدر فيها مذكرة توقيف بحق الرئيس السوري وأول مرة تصدر فيها مذكرة توقيف من قضاء وطني بحق رئيس دولة مازال في منصبه. ومما يزيد من أهمية هذه الخطوة هو أن المذكرة صدرت بعد تحقيق استغرق فترة طويلة مما يعني أن هناك أدلة قوية وموثوقة حول مسؤولية بشار الأسد، وبالتالي بغض النظر عن احتمال وجود تحديات إجرائية قانونية قد تواجه هذه القضية فإنه سيكون من الصعب نفي هذه المسؤولية عن بشار الأسد في المستقبل.

في ظل وجود تحديات إجرائية في مثل هذا النوع من القضايا، برزت تساؤلات عدة حول إمكانية تنفيذ المذكرة وتوقيف بشار الأسد وتسليمه إلى القضاء في فرنسا. على الرغم من وجود أدلة قوية تؤكد تورطه بشكل مباشر في الجرائم التي ارتكبت ومازالت ترتكب في سوريا، قد تتحجج بعض الدول بأن بشار الأسد مازال رئيس دولة من الناحية القانونية وبالتالي فإن تنفيذ المذكرة قد يتجاوز اتفاقيات تسليم المجرمين، ويرتبط بشكل مباشر بالحصانة التي يتمتع بها رؤساء الدول بموجب القانون الدولي أمام المحاكم الوطنية الأجنبية. يناقش هذا المقال ما إذا كان القانون الدولي يفرض التزاماً على الدول بتنفيذ مذكرة التوقيف الفرنسية بحق بشار الأسد في حال تواجده على أراضيها، وفيما إذا كانت الحصانة التي يتمتع بها رؤساء الدول بموجب القانون الدولي ستشكل عائقاً أمام توقيف بشار الأسد على الرغم من أن الاتهام يتعلق بانتهاكات خطيرة للقانون الدولي.

نوعان للحصانة بموجب القانون الدولي

وفقاً للقانون الدولي هناك نوعان من الحصانة التي يتمتع بها الأفراد (١) الحصانة الشخصية (Personal Immunity or immunity ratione personae) و (٢) الحصانة الوظيفية (Functional Immunity or immunity ratione materiae). الحصانة الشخصية تعني الحماية من المحاكمة أمام المحاكم الوطنية الأجنبية التي يتمتع بها بعض مسؤولي الدولة بسبب صفتهم ووضعهم الرسمي في الدولة. ترتبط هذه الحصانة بعدد من المناصب العليا في الدول وعلى وجه التحديد رؤساء الدول ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية. وهي حصانة مطلقة، بمعنى أنها تشمل جميع الأفعال المرتكبة سواء بصفة رسمية أو خاصة قبل وأثناء تولي المنصب، وتتوقف حماية الحصانة الشخصية بمجرد مغادرة الفرد لمنصبه حتى بما يتعلق بأفعال قام بها عندما كان في المنصب. أما الحصانة الوظيفية تعني الحصانة من اختصاص المحاكم الوطنية الأجنبية التي يتمتع بها الأفراد بسبب الطابع الرسمي لبعض الأفعال التي يقومون بها بصفتهم الرسمية نيابة عن الدولة. على عكس الحصانة الشخصية، ترتكز الحصانة الوظيفية على الفعل أو السلوك نفسه وليس على منصب الشخص الذي قام بالفعل. وبالتالي فهي لا تقتصر على عدد من المناصب العليا في الدولة وإنما تشمل أي موظف يتصرف نيابة عن الدولة مهما كان منصبه. وتشمل هذه الحصانة الأعمال الحكومية والأعمال التجارية للدولة، ما لم تتم بصفة شخصية. ولا تكون الأفعال رسمية بطبيعتها إلا عندما يكون الفعل منسوباً حصراً إلى الدولة.

الحصانة الوظيفية لرؤساء الدول تصبح ذات أهمية فقط عندما يترك رئيس الدولة منصبه، لأنه أثناء وجوده في المنصب يتمتع بحصانة شخصية. لذلك قد لا يكون هذا النوع من الحصانة ذا صلة عند النقاش حول المذكرة الصادرة ضد بشار الأسد كونه مازال في منصبه ومن الناحية القانونية يتمتع بحصانة بشخصية. إلا أنه من المهم الإشارة إلى أنه من المقبول على نطاق واسع أن الحصانة الوظيفية أمام المحاكم الوطنية لا تشمل الجرائم الدولية الخطيرة كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية كونها لا تعتبر تصرفات رسمية نيابة عن الدولة. اجتهادات المحاكم تدعم وجود قاعدة عرفية دولية تفيد بأن الحصانة الوظيفية لمسؤولي الدول السابقين لا تنطبق أمام المحاكم الوطنية الأجنبية في حالات الجرائم الدولية الخطيرة (على سبيل المثال القضية ضد الضابط النازي إيخمان، والقضية ضد الرئيس السابق لتشيلي بينوتشيه أمام القضاء البريطاني). أيضاً أكدت على ذلك لجنة القانون الدولي في مسودة المواد المتعلقة بحصانة مسؤولي الدول من الولاية القضائية الجنائية الأجنبية التي اعتمدتها في حزيران/يونيو ٢٠٢٢. حيث نصت المادة ٧ أن الحصانة الوظيفة أمام المحاكم الأجنبية الوطنية لا تشمل مجموعة من الجرائم الدولية هي جريمة الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب، جريمة الفصل العنصري، جريمة التعذيب وجريمة الاختفاء القسري.

لا حصانة شخصية أمام المحاكم الدولية

لا يمكن الاحتجاج بالحصانة الشخصية أمام المحاكم الدولية. ينص نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية على ذلك بشكل صريح حيث تنص المادة 27 (2) على أنه “لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص سواء كانت في إطار القانون الوطني أو الدولي دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص”. وقد تم التأكيد من قبل محكمة العدل الدولية في قضية مذكرة التوقيف/الكونغو ضد بلجيكا (Arrest Warrant Case) أن الحصانات بموجب القانون الدولي لا تمثل عائقاً لممارسة الاختصاص الجنائي أمام المحاكم الدولية، وأن أحكام الحصانة الشخصية تشكل عرفاً دولياً. على الرغم من أن محكمة العدل لم تحدد ما هي المحاكم الدولية وعلى أي أساس لا تنطبق الحصانات الشخصية أمامها (السؤال كان خارج نطاق القضية ولم يطلب من المحكمة الإجابة عنه)، إلى أنها ذكرت المحكمة الخاصة بيوغسلافيا السابقة والمحكمة الخاصة برواندا ومحكمة الجنايات الدولية كأمثلة على المحاكم الدولية التي تتمتع بسلطة محاكمة رؤساء الدول وغيرهم من مسؤولي الدولة. في نفس السياق خلصت محكمة الجنايات الدولية أيضاً أن هذه القاعدة تعتبر من القانون الدولي العرفي (قضية ملاوي المتعلقة بتسليم الرئيس السوداني السابق عمر البشير).

الحصانة الشخصية أمام المحاكم الأجنبية الوطنية

على عكس المحاكم الدولية، هناك حجج قانونية على أن رؤساء الدول ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية الذين مازالوا في مناصبهم يتمتعون بحصانة شخصية مطلقة من الملاحقة الجنائية أمام المحاكم الوطنية الأجنبية حتى في حال ارتكابهم انتهاكات جسيمة ضد القانون الجنائي الدولي مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة. تم التأكيد على هذه الحصانة في العديد من الأحكام القضائية.

تعد قضية مذكرة التوقيف أمام محكمة العدل الدولية (الكونغو ضد بلجيكا) من أبرز القضايا التي يتم الإشارة لها عند الدفاع عن الحصانة الشخصية التي يتمتع بها رؤساء الدول أمام المحاكم الوطنية الأجنبية. في عام ١٩٩٩ عدلت بلجيكا تشريعها الوطني المتعلق بجرائم الحرب ليتوافق مع نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية الذي لا يعتبر المنصب الرسمي كسبب للحصانة. بالتالي لم تعد الحصانة المرتبطة بالصفة الرسمية للشخص تمنع محاكمة هذا الشخص أمام القضاء البلجيكي. أصدر قاضي تحقيق بلجيكي، بموجب هذا القانون، مذكرة اعتقال دولية بحق وزير خارجية جمهورية الكونغو بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. تقدمت جمهورية الكونغو بطلب إلى محكمة العدل الدولية للاعتراض على أمر التوقيف الصادر عن القضاء البلجيكي بحجة أنه قد انتهك الحصانة الشخصية لوزير خارجيتها، بالإضافة إلى انتهاكه للمبدأ القانوني (par in parem non habet imperium) الذي يقضي بأنه ليس لدولة ذات سيادة أن تمارس ولايتها القضائية على دولة أخرى ذات سيادة. شكلت هذه القضية فرصة لمحكمة العدل لتعطي رأيها في الحصانة التي يتمتع بها مسؤولو الدول الذين مازالوا في مناصبهم بموجب القانون الدولي العرفي. في سبيل ذلك قامت المحكمة بتحليل الممارسات الدولية المتعلقة بالحصانة بما في ذلك أحكام المحاكم والتشريعات الوطنية لبعض الدول. خلصت المحكمة من حيث النتيجة إلى أن وزير خارجية الكونغو الذي كان في منصبه آنذاك يتمتع بحصانة حتى من التهم المتعلقة بجرائم دولية خطيرة. حيث لم تجد المحكمة في ممارسات الدول أن هناك استثناء في القانون الدولي العرفي من القاعدة التي تمنح الحصانة من الولاية القضائية الجنائية الأجنبية لوزراء الخارجية الذين ما زلوا في مناصبهم حين يشتبه في ارتكابهم جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. وجدت محكمة العدل الدولية أيضأً أن مجرد إصدار القضاء البلجيكي لمذكرة توقيف بحق وزير الخارجية لجمهورية الكونغو الديمقراطية الذي مازال في منصبه ينتهك القواعد العرفية الدولية بشأن الحصانات الشخصية التي يتمتع بها الوزير، وأن بلجيكا انتهكت القانون الدولي المتعلق بالحصانات الشخصية بمجرد تعميم مذكرة التوقيف على المستوى الدولي بغض النظر عما إذا كانت قد اتخذت أي خطوات أخرى لمطالبة الدول بتنفيذها. على الرغم من أن هذه القضية ناقشت حصانة وزير الخارجية، إلا أن الممارسات القضائية اللاحقة والتعليقات القانونية على القضية تؤكد أن رأي محكمة العدل الدولية ينطبق أيضاً على رؤساء الدول ورؤساء الحكومات. من المهم الإشارة أن المحكمة وفي نفس القرار وضحت أن هنالك أربع حالات لا تنطبق فيها الحصانة الشخصية وبالتالي تجوز فيها الملاحقة الجنائية لمسؤولي الدول الرفيعين: (أ) يمكن محاكمة المسؤول أمام المحاكم الوطنية في بلده، (ب) إذا تنازلت دولة المسؤول عن الحق في الحصانة، (ج) يمكن محاكمة المسؤول عندما يترك منصبه، (د) يمكن محاكمة المسؤول أمام محكمة جنائية دولية.

أيضاً، على الصعيد الوطني تم التأكيد على الحصانة الشخصية المطلقة لرؤساء الدول من قبل العديد من المحاكم الوطنية. على سبيل المثال في قضية ضد فيديل كاسترو عام ١٩٩٨ أمام المحاكم الإسبانية بتهم تتعلق بالإبادة الجماعية والتعذيب والإرهاب، خلصت المحكمة العليا الوطنية في قرارها أن كاسترو كرئيس دولة في منصبه لديه حصانة مطلقة من الولاية الجنائية للمحاكم الأجنبية، حتى فيما يتعلق باتهامات بارتكاب جرائم دولية. أيضاً في عام ٢٠٠١ تم تقديم شكوى لمحكمة بلجيكية ضد أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت، بتهم تتعلق بارتكاب جرائم الإبادة وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي وقعت في بيروت في عام ١٩٨٢. خلصت محكمة النقض البلجيكية إلى أنه على الرغم من أن القانون البلجيكي المتعلق بالولاية القضائية العالمية لا يعترف بالصفة الرسمية كسبب للحصانة، إلا أن القانون البلجيكي سيتعارض مع القانون الدولي العرفي إذا تجاهل الحصانة التي يتمتع بها أرييل شارون، كرئيس وزراء في منصبه، ولذلك تم رفض القضية من قبل المحكمة. هنا لا بد من الإشارة إلى أن بلجيكا قامت في عام ٢٠٠٣ بتغيير تشريعاتها المتعلقة بجرائم الحرب واعترفت بشكل كامل بالحصانة الشخصية لرؤساء الدول ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية طوال فترة تواجدهم في مناصبهم. بالمثل، في القضية ضد رئيس زمبابوي موغابي ووزير خارجيتها مودينجي أمام المحاكم الأميركية نظرت المحكمة فيما إذا كان انتهاك حقوق الإنسان الأساسية التي ترقى إلى مرتبة القواعد الآمرة في القانون الدولي (Jus Cogens) يشكل استثناء من الحصانة الشخصية. بالنتيجة، رفضت المحكمة الدعوى وأيدت الحصانة الشخصية. وخلال هذه القضية تدخلت الحكومة الأميركية وقدمت مقترحاً للمحكمة يفيد بتمتع موغابي ومودينجي بحصانة رؤساء الدول. أيضاً من القضايا الهامة التي ناقشت الحصانة الشخصية المطلقة أمام المحاكم الوطنية هي قضية الرئيس التشيلي السابق بينوشيه أمام مجلس اللوردات البريطاني. على الرغم من أن هذه القضية تتعلق برئيس دولة سابق، إلا مجلس اللوردات البريطاني أشار أن قراره بعدم منح بينوشيه كرئيس سابق حصانة لا يؤثر على الحصانة الشخصية لرؤساء الدولة الذين مازالوا في مناصبهم.

لا بد من الإشارة إلى أن مسودة المواد المتعلقة بحصانة مسؤولي الدول من الولاية القضائية الجنائية الأجنبية التي اعتمدتها لجنة القانون الدولي في حزيران/يونيو ٢٠٢٢ أكدت بشكل صريح على الحصانة الشخصية المطلقة التي يتمتع بها رؤساء الدول، رؤساء الوزراء ووزراء الخارجية أمام المحاكم الوطنية الأجنبية وأنها تشمل جميع الأفعال الصادرة عنهم خلال تواجدهم في المنصب وقبل استلامهم للمنصب، سواء صدرت عنهم بالصفة الرسمية أم الخاصة (المواد ٣ و٤). في هذا السياق أكدت اللجنة الاستشارية لقضايا القانون الدولي العام في هولندا (CAVV) في رأي استشاري حول مسودة مواد الحصانة المذكورة صادر في حزيران/يونيو ٢٠٢٣ أن الحصانة الشخصية وفق المادة ٤ هي حصانة مطلقة تمتد لتشمل جميع الأفعال بما في ذلك تلك التي تعتبر جرائم بموجب القانون الدولي.

مذكرة توقيف رغم الحصانة الشخصية

واضح من موقف محكمة العدل الدولية والمحاكم الوطنية أن رؤساء الدول الذين مازالوا في مناصبهم يتمتعون بالحصانة الشخصية المطلقة أمام المحاكم الوطنية للدول الأجنبية حتى بالنسبة للجرائم الدولية الخطيرة. القضاة الفرنسيون بكل تأكيد على دراية بالحصانة الشخصية التي قد يتمتع بها بشار الأسد بموجب القانون الدولي وغالباً بحثوا في جميع الحجج التي تدعم وجود هذه الحصانة ومع ذلك مضوا قدماً وأصدروا مذكرة توقيف. وبالتالي من المرجح أنه يوجد حجج قانونية ويوجد في ظروف وملابسات هذه القضية ما يبرر التخلي عن الحصانة ومحاكمة بشار الأسد و قد تتمحور هذه الحجج بشكل خاص حول استخدام السلاح الكيماوي.
خطورة الجرم والعدد الكبير من الضحايا والمعاناة الجسدية والنفسية التي نتجت عنه ووجود أدلة قطعية على تورط بشار الأسد شخصياً في الهجمات الكيماوية والإجماع الدولي على ضرورة المحاسبة على الأرجح لعبت دوراً كبيراً في إصدار هذه المذكرة. استخدام الأسلحة الكيماوية محظور بشكل مطلق في القانون الدولي حيث يعود هذا الحظر إلى إعلان لاهاي عام ١٨٩٩ بشأن الغازات الخانقة ومن ثم بروتوكول جنيف لحظر الاستعمال الحربي للغازات الخانقة أو السامة أو ما شابهها ولوسائل الحرب البكتريولوجية عام ١٩٢٥ وصولاً إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيمياوية التي دخلت حيز التنفيذ عام ١٩٩٧وهي معاهدة تضم كل الدول العالم تقريباً (١٩٣ دولة طرف في الاتفاقية) وأكثر شمولاً من بروتوكول جنيف، حيث لا تحظر فقط استخدام الأسلحة الكيماوية وإنما أيضاً تطوير وإنتاج وتخزين ونقل الأسلحة الكيميائية وتتطلب تدميرها خلال فترة زمنية محددة.
أيضاً هناك إجماع كبير بين دول العالم على إدانة استخدام الأسلحة الكيماوية من قبل النظام السوري وضرورة محاسبة الأفراد المسؤولين. أدى استخدام الأسلحة الكيمياوية من قبل النظام السوري إلى تصويت غير مسبوق على تعليق حقوق وامتيازات التصويت لسوريا في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية في عام ٢٠٢١، وهي مبادرة رعتها ٤٦ دولة وصوتت لصالحها ٨٧ دولة وعارضتها ١٥ دولة فقط. أيضاً تبنى مجلس الأمن عدة قرارات تؤكد أن استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا يشكل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي وأنه لا بد من محاسبة جميع الأفراد المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا (القرارات ٢١١٨/٢٠١٣، ٢٢٠٩/٢٠١٥، ٢٣١٤/٢٠١٦، ٢٣١٩/٢٠١٦). في نفس السياق تبنت الجمعية العامة العديد من القرارات التي تؤكد على ضرورة محاسبة جميع المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا (القرارات ٨٦/١٨٢/٢٠١٣، ٧٠/٤١/٢٠١٥، ٧١/٦٩/٢٠١٦، ٧٢/٤٣/٢٠١٧، ٧٣/٤٥/٢٠١٨، ٧٤/٤٠/٢٠١٩، ٧٤/١٦٩/٢٠١٩، ٧٥/٥٥/٢٠٢٠، ٧٥/١٩٣/٢٠٢٠). رغم كل هذه القرارات لم تجرِ أي محاسبة قضائية حتى الآن.
حجة أخرى من الممكن أن القضاة في فرنسا استندوا إليها لرفض إثارة الحصانة، هي قضية بينوشيه أمام مجلس اللوردات البريطاني. كانت إحدى الحجج التي تقدم بها أحد اللوردات (اللورد Hope) لعدم منح بينوشيه الحصانة هو أنه لا يجوز لدولة موقعة على اتفاقية التعذيب أن تثير موضوع الحصانة أمام محاكم دولة أخرى طرف في المعاهدة في حالة وجود ادعاءات بالتعذيب المنهجي أو واسع النطاق ضد مسؤوليها أو أي شخص آخر يتصرف بصفة رسمية. صحيح أن هذه القضية ناقشت الحصانة الوظيفية لرئيس دولة سابق متهم بارتكاب التعذيب إلا أن هذه الحجة قد تكون ذات صلة في القضية الحالية. سوريا طرف في اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية وبالتالي من المقبول القول أنه لا يجوز لها أن تتحجج بوجود الحصانة في حال وجود ادعاءات تتعلق باستخدام الأسلحة الكيماوية أمام محاكم دولة أخرى طرف في الاتفاقية.

لا بد من الإشارة أن قرار قضاة التحقيق في فرنسا بتجاوز الحصانة الشخصية وإصدار مذكرة التوقيف ليس قطعياً، ونظرياً من الممكن الطعن بالمذكرة أمام القضاء الفرنسي من قبل المدعي العام أو من الدفاع (في حال تم توكيل محامٍ لتمثيل عن بشار الأسد) وإثارة موضوع الحصانة الشخصية لبشار الأسد، وعندها على القضاء الفرنسي أن يبت فيما إذا كان بشار الأسد يتمتع بالحصانة الشخصية أم لا قبل النظر في موضوع الادعاء. كذلك من الناحية القانونية، يمكن للدولة السورية اللجوء إلى محكمة العدل الدولية للاعتراض على مذكرة التوقيف الفرنسية على غرار الدعوى التي تقدمت بها الكونغو ضد بلجيكا، أو للاعتراض على أي قرار لاحق يصدر عن القضاء الفرنسي في حال تقرر المضي بالدعوى وأن بشار الأسد لا يتمتع بالحصانة الشخصية أمام المحاكم الوطنية الفرنسية. لذلك ستكون هذه القضية فرصة حقيقية ليس فقط أمام القضاء الفرنسي وإنما أمام دول العالم لإعادة النظر في قواعد الحصانة الشخصية عن الجرائم الدولية الخطيرة وتحقيق العدالة لضحايا هذه الجرائم. بغض النظر عن النتيجة، فإن أي اعتراض أو نقاش قانوني حول موضوع الحصانة أمام المحاكم الدولية أو المحلية سيطرح أمام هذه المحاكم الأدلة الكثيرة حول تورط بشار الأسد في جرائم الكيماوي، وبالتالي فإن حتى التحديات قد التي تشكلها مسألة الحصانة سيكون لها فوائد كبيرة في جهود المناصرة في وقت تحاول فيه بعض الدول التغاضي عن الجرائم في سوريا والتطبيع مع النظام، وهو ما يضيف أيضاً إلى أهمية هذه المذكرة.

أخيراً لا بد من الإشارة أن هناك قضية تم فيها رفض منح الحصانة الشخصية لرئيس دولة من قبل محكمة وطنية، وهي قضية رفعت في الولايات المتحدة الأميركية عام ١٩٩٠ ضد الجنرال مانويل نورييغا رئيس بنما في ذلك الوقت. وهي قضية لا تتعلق بجرائم دولية خطيرة، وإنما بتهم تتعلق بالاتجار بالمخدرات. بنتيجة هذه القضية تم إدانة نورييغا وحُكم عليه بالسجن. لم تستند هذه القضية إلى أن رئيس الدولة الذي مازال في منصبه ليس له الحق في التمسك بالحصانة الشخصية وإنما لم يتم منح الحصانة على أساس أن الحكومة الأمريكية لم تعترف بنورييغا أبداً كرئيس دولة. في الوقت الحالي الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الوحيدة التي تعطي لنفسها الحق في إخضاع مسؤولي الدول لولايتها القضائية على الرغم من أنها ما زالت تعترف بالحصانة الشخصية. حيث يتضمن قانون الحصانات السيادية الأجنبية الأميركي (Foreign Sovereign Immunities Act of 1976) – بموجب تعديل تم اعتماده في عام ١٩٦٦(Flatow Amendment) – بعض الاستثناءات لمبدأ الحصانة. حسب هذا التعديل يمكن مطالبة دولة أجنبية بتعويضات مالية أمام القضاء الأميركي عن الإصابات الشخصية أو الوفاة الناجمة عن أعمال التعذيب، أو القتل خارج القضاء أو تخريب الطائرات أو أخذ الرهائن أو توفير الدعم المادي أو الموارد لمثل هذا العمل في حال تم تصنيف الدولة الأجنبية من قبل الولايات المتحدة كدولة راعية للإرهاب. صحيح أنه لا يمكن القياس على الوضع في الولايات المتحدة الأميركية لتبرير رفع الحصانة الشخصية، إلا أن التوجه الأميركي يؤكد أنه من الممكن أن تقوم الدول بإعادة النظر في مسألة الحصانة الشخصية للرؤساء في حالات معينة، قد يكون ارتكاب الجرائم الدولية بما فيها لاستخدام الأسلحة الكيماوية إحدى هذه الحالات في المستقبل.

خاتمة

يستعرض هذا المقال الحجج القانونية التي قد تبرر منح الحصانة الشخصية لبشار الأسد والتي يمكن أن تثيرها بعض الدول للامتناع عن تنفيذ المذكرة الفرنسية. في نفس الوقت يجادل المقال بأن هناك حجج قوية استند إليها القضاة في فرنسا لتجاوز الحصانة كخطورة الجريمة والإجماع الدولي على ضرورة المحاسبة على استخدام السلاح الكمياوي في سوريا والأدلة القوية على تورط بشار الأسد في الجريمة. قد يكون من مصلحة بعض الدول التمسك بموضوع الحصانة الشخصية المطلقة لمسؤولي الدول أمام المحاكم الوطنية الأجنبية ومعارضة تنفيذ مذكرة التوقيف بحق بشار الأسد، لأن التنازل عن الحصانة الشخصية والقبول بولاية القضاء الوطني الأجنبي قد يشكل سابقة تفسح المجال أمام العديد من المحاكمات ضد مسؤولين مازالوا في مناصبهم، إلا أنه في المقابل سيكون هناك دول أخرى تدعم هذه المذكرة وتؤيد رفع الحصانة عن رؤساء الدول في حال ارتكابهم جرائم خطيرة ضد القانون الدولي. جهود المناصرة التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني السوري ومجموعات الضحايا قد تلعب دوراً كبيراً في حث الدول على إصدار بيانات واتخاذ مواقف رسمية تؤكد دعمهم للمذكرة وتأييدهم لضرورة رفع الحصانة الشخصية في حالة الجرائم الدولية الخطيرة، وهذا ما قد يكون بداية لممارسة جديدة في القانون الدولي قد تشكل استثناءً لمبدأ الحصانة المطلقة لرؤساء الدول.

أخيراً، بغض النظر عن النقاش حول مدى إلزامية هذه المذكرة بالنسبة لباقي دول العالم لا يمكن أبداً التقليل من أهميتها أو أهمية المحاكمات التي جرت وتجري في أوروبا وفقاً للولاية القضائية العالمية ضد مرتكبي الجرائم الدولية في سوريا. وفرت الولاية القضائية العالمية، وما زالت، آلية مهمة لمحاسبة الجناة ومكافحة الإفلات من العقاب في ظل عدم وجود محكمة دولية ذات اختصاص للنظر في الجرائم الدولية المرتكبة في سوريا، وساهمت وتساهم في مواجهة جهود التطبيع التي يقودها النظام لإعادة تعويم نفسه. هذه المذكرة ما كانت لتصدر لولا الجهود الكبيرة التي قامت بها المنظمات السورية وروابط الضحايا والأدلة القوية التي قدمتها حول تورط بشار الأسد بشكل مباشر في هجمات الكيماوي وهي صادرة عن جهة قضائية مستقلة، وليس سياسية، وبناء على حجج قانونية وبالتالي أثرها سيكون كبير في مواجهة جهود التطبيع وإعادة بعض الدول لعلاقاتها مع بشار الأسد، الذي سينظر له كمجرم “يختبئ” وراء الحصانة.

مذكرة التوقيف الفرنسية: فرصة لإعادة النظر في الحصانة الشخصية لرؤساء الدول

ديسمبر 15, 2023    |   مشاهدات [jp_post_view]   | الكاتب: مهند شرباتي مسؤول قانوني – وحدة الدعم بالقانون الدولي

في ١٥ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٢٣ أصدر قضاة تحقيق جنائيون في فرنسا مذكرة توقيف بحق الرئيس السوري بشار الأسد بتهمة التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية متعلقة بالهجمات الكيمياوية في مدينة دوما والغوطة الشرقية في آب/أغسطس ٢٠١٣، والتي أسفرت عن مقتل أكثر ألف شخص. جاءت المذكرة نتيجة شكوى تقدم بها المركز السوري للإعلام وحرية التعبير و مجموعة من الضحايا عام ٢٠٢١ وتم لاحقاً الانضمام إليها ودعمها من قبل الأرشيف السوري ورابطة ضحايا الأسلحة الكيماوية ومبادرة عدالة المجتمع المفتوح والمدافعون عن الحقوق المدنية وقد شملت أيضاً ماهر الأسد قائد ما يسمى الفرقة الرابعة في الجيش العربي السوري، بالإضافة إلى ضابطين أخرين هما غسان عباس والعميد بسام الحسن.

إصدار هذه المذكرة يعتبر خطوة بارزة في طريق السعي للعدالة والمحاسبة في سوريا فرغم جسامة هذه الجريمة والعدد الكبير من الضحايا والإصابات الجسدية والنفسية الذي نتجت عنها لم يتم محاسبة أي مسؤول عن استخدام السلاح الكيماوي. إضافة إلى أنها أول مرة تصدر فيها مذكرة توقيف بحق الرئيس السوري وأول مرة تصدر فيها مذكرة توقيف من قضاء وطني بحق رئيس دولة مازال في منصبه. ومما يزيد من أهمية هذه الخطوة هو أن المذكرة صدرت بعد تحقيق استغرق فترة طويلة مما يعني أن هناك أدلة قوية وموثوقة حول مسؤولية بشار الأسد، وبالتالي بغض النظر عن احتمال وجود تحديات إجرائية قانونية قد تواجه هذه القضية فإنه سيكون من الصعب نفي هذه المسؤولية عن بشار الأسد في المستقبل.

في ظل وجود تحديات إجرائية في مثل هذا النوع من القضايا، برزت تساؤلات عدة حول إمكانية تنفيذ المذكرة وتوقيف بشار الأسد وتسليمه إلى القضاء في فرنسا. على الرغم من وجود أدلة قوية تؤكد تورطه بشكل مباشر في الجرائم التي ارتكبت ومازالت ترتكب في سوريا، قد تتحجج بعض الدول بأن بشار الأسد مازال رئيس دولة من الناحية القانونية وبالتالي فإن تنفيذ المذكرة قد يتجاوز اتفاقيات تسليم المجرمين، ويرتبط بشكل مباشر بالحصانة التي يتمتع بها رؤساء الدول بموجب القانون الدولي أمام المحاكم الوطنية الأجنبية. يناقش هذا المقال ما إذا كان القانون الدولي يفرض التزاماً على الدول بتنفيذ مذكرة التوقيف الفرنسية بحق بشار الأسد في حال تواجده على أراضيها، وفيما إذا كانت الحصانة التي يتمتع بها رؤساء الدول بموجب القانون الدولي ستشكل عائقاً أمام توقيف بشار الأسد على الرغم من أن الاتهام يتعلق بانتهاكات خطيرة للقانون الدولي.

نوعان للحصانة بموجب القانون الدولي

وفقاً للقانون الدولي هناك نوعان من الحصانة التي يتمتع بها الأفراد (١) الحصانة الشخصية (Personal Immunity or immunity ratione personae) و (٢) الحصانة الوظيفية (Functional Immunity or immunity ratione materiae). الحصانة الشخصية تعني الحماية من المحاكمة أمام المحاكم الوطنية الأجنبية التي يتمتع بها بعض مسؤولي الدولة بسبب صفتهم ووضعهم الرسمي في الدولة. ترتبط هذه الحصانة بعدد من المناصب العليا في الدول وعلى وجه التحديد رؤساء الدول ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية. وهي حصانة مطلقة، بمعنى أنها تشمل جميع الأفعال المرتكبة سواء بصفة رسمية أو خاصة قبل وأثناء تولي المنصب، وتتوقف حماية الحصانة الشخصية بمجرد مغادرة الفرد لمنصبه حتى بما يتعلق بأفعال قام بها عندما كان في المنصب. أما الحصانة الوظيفية تعني الحصانة من اختصاص المحاكم الوطنية الأجنبية التي يتمتع بها الأفراد بسبب الطابع الرسمي لبعض الأفعال التي يقومون بها بصفتهم الرسمية نيابة عن الدولة. على عكس الحصانة الشخصية، ترتكز الحصانة الوظيفية على الفعل أو السلوك نفسه وليس على منصب الشخص الذي قام بالفعل. وبالتالي فهي لا تقتصر على عدد من المناصب العليا في الدولة وإنما تشمل أي موظف يتصرف نيابة عن الدولة مهما كان منصبه. وتشمل هذه الحصانة الأعمال الحكومية والأعمال التجارية للدولة، ما لم تتم بصفة شخصية. ولا تكون الأفعال رسمية بطبيعتها إلا عندما يكون الفعل منسوباً حصراً إلى الدولة.

الحصانة الوظيفية لرؤساء الدول تصبح ذات أهمية فقط عندما يترك رئيس الدولة منصبه، لأنه أثناء وجوده في المنصب يتمتع بحصانة شخصية. لذلك قد لا يكون هذا النوع من الحصانة ذا صلة عند النقاش حول المذكرة الصادرة ضد بشار الأسد كونه مازال في منصبه ومن الناحية القانونية يتمتع بحصانة بشخصية. إلا أنه من المهم الإشارة إلى أنه من المقبول على نطاق واسع أن الحصانة الوظيفية أمام المحاكم الوطنية لا تشمل الجرائم الدولية الخطيرة كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية كونها لا تعتبر تصرفات رسمية نيابة عن الدولة. اجتهادات المحاكم تدعم وجود قاعدة عرفية دولية تفيد بأن الحصانة الوظيفية لمسؤولي الدول السابقين لا تنطبق أمام المحاكم الوطنية الأجنبية في حالات الجرائم الدولية الخطيرة (على سبيل المثال القضية ضد الضابط النازي إيخمان، والقضية ضد الرئيس السابق لتشيلي بينوتشيه أمام القضاء البريطاني). أيضاً أكدت على ذلك لجنة القانون الدولي في مسودة المواد المتعلقة بحصانة مسؤولي الدول من الولاية القضائية الجنائية الأجنبية التي اعتمدتها في حزيران/يونيو ٢٠٢٢. حيث نصت المادة ٧ أن الحصانة الوظيفة أمام المحاكم الأجنبية الوطنية لا تشمل مجموعة من الجرائم الدولية هي جريمة الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب، جريمة الفصل العنصري، جريمة التعذيب وجريمة الاختفاء القسري.

لا حصانة شخصية أمام المحاكم الدولية

لا يمكن الاحتجاج بالحصانة الشخصية أمام المحاكم الدولية. ينص نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية على ذلك بشكل صريح حيث تنص المادة 27 (2) على أنه “لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص سواء كانت في إطار القانون الوطني أو الدولي دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص”. وقد تم التأكيد من قبل محكمة العدل الدولية في قضية مذكرة التوقيف/الكونغو ضد بلجيكا (Arrest Warrant Case) أن الحصانات بموجب القانون الدولي لا تمثل عائقاً لممارسة الاختصاص الجنائي أمام المحاكم الدولية، وأن أحكام الحصانة الشخصية تشكل عرفاً دولياً. على الرغم من أن محكمة العدل لم تحدد ما هي المحاكم الدولية وعلى أي أساس لا تنطبق الحصانات الشخصية أمامها (السؤال كان خارج نطاق القضية ولم يطلب من المحكمة الإجابة عنه)، إلى أنها ذكرت المحكمة الخاصة بيوغسلافيا السابقة والمحكمة الخاصة برواندا ومحكمة الجنايات الدولية كأمثلة على المحاكم الدولية التي تتمتع بسلطة محاكمة رؤساء الدول وغيرهم من مسؤولي الدولة. في نفس السياق خلصت محكمة الجنايات الدولية أيضاً أن هذه القاعدة تعتبر من القانون الدولي العرفي (قضية ملاوي المتعلقة بتسليم الرئيس السوداني السابق عمر البشير).

الحصانة الشخصية أمام المحاكم الأجنبية الوطنية

على عكس المحاكم الدولية، هناك حجج قانونية على أن رؤساء الدول ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية الذين مازالوا في مناصبهم يتمتعون بحصانة شخصية مطلقة من الملاحقة الجنائية أمام المحاكم الوطنية الأجنبية حتى في حال ارتكابهم انتهاكات جسيمة ضد القانون الجنائي الدولي مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة. تم التأكيد على هذه الحصانة في العديد من الأحكام القضائية.

تعد قضية مذكرة التوقيف أمام محكمة العدل الدولية (الكونغو ضد بلجيكا) من أبرز القضايا التي يتم الإشارة لها عند الدفاع عن الحصانة الشخصية التي يتمتع بها رؤساء الدول أمام المحاكم الوطنية الأجنبية. في عام ١٩٩٩ عدلت بلجيكا تشريعها الوطني المتعلق بجرائم الحرب ليتوافق مع نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية الذي لا يعتبر المنصب الرسمي كسبب للحصانة. بالتالي لم تعد الحصانة المرتبطة بالصفة الرسمية للشخص تمنع محاكمة هذا الشخص أمام القضاء البلجيكي. أصدر قاضي تحقيق بلجيكي، بموجب هذا القانون، مذكرة اعتقال دولية بحق وزير خارجية جمهورية الكونغو بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. تقدمت جمهورية الكونغو بطلب إلى محكمة العدل الدولية للاعتراض على أمر التوقيف الصادر عن القضاء البلجيكي بحجة أنه قد انتهك الحصانة الشخصية لوزير خارجيتها، بالإضافة إلى انتهاكه للمبدأ القانوني (par in parem non habet imperium) الذي يقضي بأنه ليس لدولة ذات سيادة أن تمارس ولايتها القضائية على دولة أخرى ذات سيادة. شكلت هذه القضية فرصة لمحكمة العدل لتعطي رأيها في الحصانة التي يتمتع بها مسؤولو الدول الذين مازالوا في مناصبهم بموجب القانون الدولي العرفي. في سبيل ذلك قامت المحكمة بتحليل الممارسات الدولية المتعلقة بالحصانة بما في ذلك أحكام المحاكم والتشريعات الوطنية لبعض الدول. خلصت المحكمة من حيث النتيجة إلى أن وزير خارجية الكونغو الذي كان في منصبه آنذاك يتمتع بحصانة حتى من التهم المتعلقة بجرائم دولية خطيرة. حيث لم تجد المحكمة في ممارسات الدول أن هناك استثناء في القانون الدولي العرفي من القاعدة التي تمنح الحصانة من الولاية القضائية الجنائية الأجنبية لوزراء الخارجية الذين ما زلوا في مناصبهم حين يشتبه في ارتكابهم جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. وجدت محكمة العدل الدولية أيضأً أن مجرد إصدار القضاء البلجيكي لمذكرة توقيف بحق وزير الخارجية لجمهورية الكونغو الديمقراطية الذي مازال في منصبه ينتهك القواعد العرفية الدولية بشأن الحصانات الشخصية التي يتمتع بها الوزير، وأن بلجيكا انتهكت القانون الدولي المتعلق بالحصانات الشخصية بمجرد تعميم مذكرة التوقيف على المستوى الدولي بغض النظر عما إذا كانت قد اتخذت أي خطوات أخرى لمطالبة الدول بتنفيذها. على الرغم من أن هذه القضية ناقشت حصانة وزير الخارجية، إلا أن الممارسات القضائية اللاحقة والتعليقات القانونية على القضية تؤكد أن رأي محكمة العدل الدولية ينطبق أيضاً على رؤساء الدول ورؤساء الحكومات. من المهم الإشارة أن المحكمة وفي نفس القرار وضحت أن هنالك أربع حالات لا تنطبق فيها الحصانة الشخصية وبالتالي تجوز فيها الملاحقة الجنائية لمسؤولي الدول الرفيعين: (أ) يمكن محاكمة المسؤول أمام المحاكم الوطنية في بلده، (ب) إذا تنازلت دولة المسؤول عن الحق في الحصانة، (ج) يمكن محاكمة المسؤول عندما يترك منصبه، (د) يمكن محاكمة المسؤول أمام محكمة جنائية دولية.

أيضاً، على الصعيد الوطني تم التأكيد على الحصانة الشخصية المطلقة لرؤساء الدول من قبل العديد من المحاكم الوطنية. على سبيل المثال في قضية ضد فيديل كاسترو عام ١٩٩٨ أمام المحاكم الإسبانية بتهم تتعلق بالإبادة الجماعية والتعذيب والإرهاب، خلصت المحكمة العليا الوطنية في قرارها أن كاسترو كرئيس دولة في منصبه لديه حصانة مطلقة من الولاية الجنائية للمحاكم الأجنبية، حتى فيما يتعلق باتهامات بارتكاب جرائم دولية. أيضاً في عام ٢٠٠١ تم تقديم شكوى لمحكمة بلجيكية ضد أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت، بتهم تتعلق بارتكاب جرائم الإبادة وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي وقعت في بيروت في عام ١٩٨٢. خلصت محكمة النقض البلجيكية إلى أنه على الرغم من أن القانون البلجيكي المتعلق بالولاية القضائية العالمية لا يعترف بالصفة الرسمية كسبب للحصانة، إلا أن القانون البلجيكي سيتعارض مع القانون الدولي العرفي إذا تجاهل الحصانة التي يتمتع بها أرييل شارون، كرئيس وزراء في منصبه، ولذلك تم رفض القضية من قبل المحكمة. هنا لا بد من الإشارة إلى أن بلجيكا قامت في عام ٢٠٠٣ بتغيير تشريعاتها المتعلقة بجرائم الحرب واعترفت بشكل كامل بالحصانة الشخصية لرؤساء الدول ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية طوال فترة تواجدهم في مناصبهم. بالمثل، في القضية ضد رئيس زمبابوي موغابي ووزير خارجيتها مودينجي أمام المحاكم الأميركية نظرت المحكمة فيما إذا كان انتهاك حقوق الإنسان الأساسية التي ترقى إلى مرتبة القواعد الآمرة في القانون الدولي (Jus Cogens) يشكل استثناء من الحصانة الشخصية. بالنتيجة، رفضت المحكمة الدعوى وأيدت الحصانة الشخصية. وخلال هذه القضية تدخلت الحكومة الأميركية وقدمت مقترحاً للمحكمة يفيد بتمتع موغابي ومودينجي بحصانة رؤساء الدول. أيضاً من القضايا الهامة التي ناقشت الحصانة الشخصية المطلقة أمام المحاكم الوطنية هي قضية الرئيس التشيلي السابق بينوشيه أمام مجلس اللوردات البريطاني. على الرغم من أن هذه القضية تتعلق برئيس دولة سابق، إلا مجلس اللوردات البريطاني أشار أن قراره بعدم منح بينوشيه كرئيس سابق حصانة لا يؤثر على الحصانة الشخصية لرؤساء الدولة الذين مازالوا في مناصبهم.

لا بد من الإشارة إلى أن مسودة المواد المتعلقة بحصانة مسؤولي الدول من الولاية القضائية الجنائية الأجنبية التي اعتمدتها لجنة القانون الدولي في حزيران/يونيو ٢٠٢٢ أكدت بشكل صريح على الحصانة الشخصية المطلقة التي يتمتع بها رؤساء الدول، رؤساء الوزراء ووزراء الخارجية أمام المحاكم الوطنية الأجنبية وأنها تشمل جميع الأفعال الصادرة عنهم خلال تواجدهم في المنصب وقبل استلامهم للمنصب، سواء صدرت عنهم بالصفة الرسمية أم الخاصة (المواد ٣ و٤). في هذا السياق أكدت اللجنة الاستشارية لقضايا القانون الدولي العام في هولندا (CAVV) في رأي استشاري حول مسودة مواد الحصانة المذكورة صادر في حزيران/يونيو ٢٠٢٣ أن الحصانة الشخصية وفق المادة ٤ هي حصانة مطلقة تمتد لتشمل جميع الأفعال بما في ذلك تلك التي تعتبر جرائم بموجب القانون الدولي.

مذكرة توقيف رغم الحصانة الشخصية

واضح من موقف محكمة العدل الدولية والمحاكم الوطنية أن رؤساء الدول الذين مازالوا في مناصبهم يتمتعون بالحصانة الشخصية المطلقة أمام المحاكم الوطنية للدول الأجنبية حتى بالنسبة للجرائم الدولية الخطيرة. القضاة الفرنسيون بكل تأكيد على دراية بالحصانة الشخصية التي قد يتمتع بها بشار الأسد بموجب القانون الدولي وغالباً بحثوا في جميع الحجج التي تدعم وجود هذه الحصانة ومع ذلك مضوا قدماً وأصدروا مذكرة توقيف. وبالتالي من المرجح أنه يوجد حجج قانونية ويوجد في ظروف وملابسات هذه القضية ما يبرر التخلي عن الحصانة ومحاكمة بشار الأسد و قد تتمحور هذه الحجج بشكل خاص حول استخدام السلاح الكيماوي.
خطورة الجرم والعدد الكبير من الضحايا والمعاناة الجسدية والنفسية التي نتجت عنه ووجود أدلة قطعية على تورط بشار الأسد شخصياً في الهجمات الكيماوية والإجماع الدولي على ضرورة المحاسبة على الأرجح لعبت دوراً كبيراً في إصدار هذه المذكرة. استخدام الأسلحة الكيماوية محظور بشكل مطلق في القانون الدولي حيث يعود هذا الحظر إلى إعلان لاهاي عام ١٨٩٩ بشأن الغازات الخانقة ومن ثم بروتوكول جنيف لحظر الاستعمال الحربي للغازات الخانقة أو السامة أو ما شابهها ولوسائل الحرب البكتريولوجية عام ١٩٢٥ وصولاً إلى اتفاقية حظر الأسلحة الكيمياوية التي دخلت حيز التنفيذ عام ١٩٩٧وهي معاهدة تضم كل الدول العالم تقريباً (١٩٣ دولة طرف في الاتفاقية) وأكثر شمولاً من بروتوكول جنيف، حيث لا تحظر فقط استخدام الأسلحة الكيماوية وإنما أيضاً تطوير وإنتاج وتخزين ونقل الأسلحة الكيميائية وتتطلب تدميرها خلال فترة زمنية محددة.
أيضاً هناك إجماع كبير بين دول العالم على إدانة استخدام الأسلحة الكيماوية من قبل النظام السوري وضرورة محاسبة الأفراد المسؤولين. أدى استخدام الأسلحة الكيمياوية من قبل النظام السوري إلى تصويت غير مسبوق على تعليق حقوق وامتيازات التصويت لسوريا في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية في عام ٢٠٢١، وهي مبادرة رعتها ٤٦ دولة وصوتت لصالحها ٨٧ دولة وعارضتها ١٥ دولة فقط. أيضاً تبنى مجلس الأمن عدة قرارات تؤكد أن استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا يشكل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي وأنه لا بد من محاسبة جميع الأفراد المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا (القرارات ٢١١٨/٢٠١٣، ٢٢٠٩/٢٠١٥، ٢٣١٤/٢٠١٦، ٢٣١٩/٢٠١٦). في نفس السياق تبنت الجمعية العامة العديد من القرارات التي تؤكد على ضرورة محاسبة جميع المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا (القرارات ٨٦/١٨٢/٢٠١٣، ٧٠/٤١/٢٠١٥، ٧١/٦٩/٢٠١٦، ٧٢/٤٣/٢٠١٧، ٧٣/٤٥/٢٠١٨، ٧٤/٤٠/٢٠١٩، ٧٤/١٦٩/٢٠١٩، ٧٥/٥٥/٢٠٢٠، ٧٥/١٩٣/٢٠٢٠). رغم كل هذه القرارات لم تجرِ أي محاسبة قضائية حتى الآن.
حجة أخرى من الممكن أن القضاة في فرنسا استندوا إليها لرفض إثارة الحصانة، هي قضية بينوشيه أمام مجلس اللوردات البريطاني. كانت إحدى الحجج التي تقدم بها أحد اللوردات (اللورد Hope) لعدم منح بينوشيه الحصانة هو أنه لا يجوز لدولة موقعة على اتفاقية التعذيب أن تثير موضوع الحصانة أمام محاكم دولة أخرى طرف في المعاهدة في حالة وجود ادعاءات بالتعذيب المنهجي أو واسع النطاق ضد مسؤوليها أو أي شخص آخر يتصرف بصفة رسمية. صحيح أن هذه القضية ناقشت الحصانة الوظيفية لرئيس دولة سابق متهم بارتكاب التعذيب إلا أن هذه الحجة قد تكون ذات صلة في القضية الحالية. سوريا طرف في اتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية وبالتالي من المقبول القول أنه لا يجوز لها أن تتحجج بوجود الحصانة في حال وجود ادعاءات تتعلق باستخدام الأسلحة الكيماوية أمام محاكم دولة أخرى طرف في الاتفاقية.

لا بد من الإشارة أن قرار قضاة التحقيق في فرنسا بتجاوز الحصانة الشخصية وإصدار مذكرة التوقيف ليس قطعياً، ونظرياً من الممكن الطعن بالمذكرة أمام القضاء الفرنسي من قبل المدعي العام أو من الدفاع (في حال تم توكيل محامٍ لتمثيل عن بشار الأسد) وإثارة موضوع الحصانة الشخصية لبشار الأسد، وعندها على القضاء الفرنسي أن يبت فيما إذا كان بشار الأسد يتمتع بالحصانة الشخصية أم لا قبل النظر في موضوع الادعاء. كذلك من الناحية القانونية، يمكن للدولة السورية اللجوء إلى محكمة العدل الدولية للاعتراض على مذكرة التوقيف الفرنسية على غرار الدعوى التي تقدمت بها الكونغو ضد بلجيكا، أو للاعتراض على أي قرار لاحق يصدر عن القضاء الفرنسي في حال تقرر المضي بالدعوى وأن بشار الأسد لا يتمتع بالحصانة الشخصية أمام المحاكم الوطنية الفرنسية. لذلك ستكون هذه القضية فرصة حقيقية ليس فقط أمام القضاء الفرنسي وإنما أمام دول العالم لإعادة النظر في قواعد الحصانة الشخصية عن الجرائم الدولية الخطيرة وتحقيق العدالة لضحايا هذه الجرائم. بغض النظر عن النتيجة، فإن أي اعتراض أو نقاش قانوني حول موضوع الحصانة أمام المحاكم الدولية أو المحلية سيطرح أمام هذه المحاكم الأدلة الكثيرة حول تورط بشار الأسد في جرائم الكيماوي، وبالتالي فإن حتى التحديات قد التي تشكلها مسألة الحصانة سيكون لها فوائد كبيرة في جهود المناصرة في وقت تحاول فيه بعض الدول التغاضي عن الجرائم في سوريا والتطبيع مع النظام، وهو ما يضيف أيضاً إلى أهمية هذه المذكرة.

أخيراً لا بد من الإشارة أن هناك قضية تم فيها رفض منح الحصانة الشخصية لرئيس دولة من قبل محكمة وطنية، وهي قضية رفعت في الولايات المتحدة الأميركية عام ١٩٩٠ ضد الجنرال مانويل نورييغا رئيس بنما في ذلك الوقت. وهي قضية لا تتعلق بجرائم دولية خطيرة، وإنما بتهم تتعلق بالاتجار بالمخدرات. بنتيجة هذه القضية تم إدانة نورييغا وحُكم عليه بالسجن. لم تستند هذه القضية إلى أن رئيس الدولة الذي مازال في منصبه ليس له الحق في التمسك بالحصانة الشخصية وإنما لم يتم منح الحصانة على أساس أن الحكومة الأمريكية لم تعترف بنورييغا أبداً كرئيس دولة. في الوقت الحالي الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة الوحيدة التي تعطي لنفسها الحق في إخضاع مسؤولي الدول لولايتها القضائية على الرغم من أنها ما زالت تعترف بالحصانة الشخصية. حيث يتضمن قانون الحصانات السيادية الأجنبية الأميركي (Foreign Sovereign Immunities Act of 1976) – بموجب تعديل تم اعتماده في عام ١٩٦٦(Flatow Amendment) – بعض الاستثناءات لمبدأ الحصانة. حسب هذا التعديل يمكن مطالبة دولة أجنبية بتعويضات مالية أمام القضاء الأميركي عن الإصابات الشخصية أو الوفاة الناجمة عن أعمال التعذيب، أو القتل خارج القضاء أو تخريب الطائرات أو أخذ الرهائن أو توفير الدعم المادي أو الموارد لمثل هذا العمل في حال تم تصنيف الدولة الأجنبية من قبل الولايات المتحدة كدولة راعية للإرهاب. صحيح أنه لا يمكن القياس على الوضع في الولايات المتحدة الأميركية لتبرير رفع الحصانة الشخصية، إلا أن التوجه الأميركي يؤكد أنه من الممكن أن تقوم الدول بإعادة النظر في مسألة الحصانة الشخصية للرؤساء في حالات معينة، قد يكون ارتكاب الجرائم الدولية بما فيها لاستخدام الأسلحة الكيماوية إحدى هذه الحالات في المستقبل.

خاتمة

يستعرض هذا المقال الحجج القانونية التي قد تبرر منح الحصانة الشخصية لبشار الأسد والتي يمكن أن تثيرها بعض الدول للامتناع عن تنفيذ المذكرة الفرنسية. في نفس الوقت يجادل المقال بأن هناك حجج قوية استند إليها القضاة في فرنسا لتجاوز الحصانة كخطورة الجريمة والإجماع الدولي على ضرورة المحاسبة على استخدام السلاح الكمياوي في سوريا والأدلة القوية على تورط بشار الأسد في الجريمة. قد يكون من مصلحة بعض الدول التمسك بموضوع الحصانة الشخصية المطلقة لمسؤولي الدول أمام المحاكم الوطنية الأجنبية ومعارضة تنفيذ مذكرة التوقيف بحق بشار الأسد، لأن التنازل عن الحصانة الشخصية والقبول بولاية القضاء الوطني الأجنبي قد يشكل سابقة تفسح المجال أمام العديد من المحاكمات ضد مسؤولين مازالوا في مناصبهم، إلا أنه في المقابل سيكون هناك دول أخرى تدعم هذه المذكرة وتؤيد رفع الحصانة عن رؤساء الدول في حال ارتكابهم جرائم خطيرة ضد القانون الدولي. جهود المناصرة التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني السوري ومجموعات الضحايا قد تلعب دوراً كبيراً في حث الدول على إصدار بيانات واتخاذ مواقف رسمية تؤكد دعمهم للمذكرة وتأييدهم لضرورة رفع الحصانة الشخصية في حالة الجرائم الدولية الخطيرة، وهذا ما قد يكون بداية لممارسة جديدة في القانون الدولي قد تشكل استثناءً لمبدأ الحصانة المطلقة لرؤساء الدول.

أخيراً، بغض النظر عن النقاش حول مدى إلزامية هذه المذكرة بالنسبة لباقي دول العالم لا يمكن أبداً التقليل من أهميتها أو أهمية المحاكمات التي جرت وتجري في أوروبا وفقاً للولاية القضائية العالمية ضد مرتكبي الجرائم الدولية في سوريا. وفرت الولاية القضائية العالمية، وما زالت، آلية مهمة لمحاسبة الجناة ومكافحة الإفلات من العقاب في ظل عدم وجود محكمة دولية ذات اختصاص للنظر في الجرائم الدولية المرتكبة في سوريا، وساهمت وتساهم في مواجهة جهود التطبيع التي يقودها النظام لإعادة تعويم نفسه. هذه المذكرة ما كانت لتصدر لولا الجهود الكبيرة التي قامت بها المنظمات السورية وروابط الضحايا والأدلة القوية التي قدمتها حول تورط بشار الأسد بشكل مباشر في هجمات الكيماوي وهي صادرة عن جهة قضائية مستقلة، وليس سياسية، وبناء على حجج قانونية وبالتالي أثرها سيكون كبير في مواجهة جهود التطبيع وإعادة بعض الدول لعلاقاتها مع بشار الأسد، الذي سينظر له كمجرم “يختبئ” وراء الحصانة.

لتحميل التقرير